بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله الذي وعد من حاسب نفسه، وأخذ بزمامها الأمن يوم الوعيد، أحمده سبحانه شرف أولياءه، وتفضل عليهم بيوم المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير داع إلى المنهج الرشيد، والهدى السديد، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين هم قدوة الناس في محاسبة النفس، حذراً من يوم هو له شديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم لا مفر منه ولا محيد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومحاسبة أنفسكم، فإن محاسبة النفس هو طريق استقامتها، وكمالها وفلاحها وسعادتها، بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]
قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم".
وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10]
قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسيره قال الحسن: "معناه قد أفلح من زكى نفسه فأصلحها، وحملها على طاعة الله عز وجل، {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أهلكها وأضلها وحملها على المعصية".
وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال:
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن تزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر" {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]
ونقل ابن القيم عن الحسن أنه قال: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة"
وقال وهب فيما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: "مكتوب في حكمة آل داود، حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيهما مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب".
وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد نقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بما لك".
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد إلى الرضى والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة".
ونقل ابن الجوزي في ذم الهوى عن السلمى قال: "سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت أبا محمد الجربري يقول: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات، محصوراً في سجن الهوى، وحرم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذ كلامه ولا يستحليه، وإن كثر ترداده على لسانه".
وقال الشيخ عبدالعزيز السلمان رحمه الله في كتابه موارد الظمآن: "فإذا علم أنه مناقش في الحساب عن مشاقيل الذر، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أحوج ما يكون إلى الحسنات، وغفران السيئات تحقق أنه لا ينجيه من هذه الأخطار إلا اعتماده على الله، ومعونته على محاسبة نفسه، ومراقبتها ومطالبتها في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه وآبه".
تجـهــــــزي بـجهـــــاز تبــلـغيـن بــــه *** يـانفـس الـردى لم تخلقـــــي عبثـــاً
وحـاذري سقـطـة الــــذل وانكســــــري *** بــــاب كريـــــم كـم هـدى وعــــفـــا
واخشي حوادث صرف الدهر في مهـل *** واستيقظي لا تكوني كالذي سقطا
في هوة الذل كان فيهـــا قطـع مدتــــه *** فوافت النفس سعيهـا كمــــا سلفـا
قال ابن قدامة في منهاج القاصدين: "واعلم أن أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، وقد أمرت بتقويمها وتزكيتها، وفطامها عن مواردها وأن تقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها، فإن أهملتها جمحت وشردت، ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لزمتها بالتوبيخ رجونا أن تصير مطمئنة، فلا تغفلن عن تذكيرها".
واعلموا عباد الله أن محاسبة النفس أنواع:
قال ابن القيم رحمه الله ومحاسبة النفس نوعان: "نوع قبل العلم، ونوع بعده".
فالنوع الأول: الذي هو قبل العمل فهو: أن يقف عند أول همه وإرداته، ولايبادر بالعمل حتى يتبين له رجحان العمل به على تركه.
قال الحسن رحمه الله: "رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان الله مضى، وإن كان لغيره تأخر".
النوع الثاني: محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة فصرت فيها من حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي ثم يحاسب نفسه هل قام بطاعة الله على وجه يرضي الله تعالى أم قصر بذلك؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد، لم فعله؟ وهل أارد به وجه الله والدار الآخرة؟
فيكون رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح ويفوته الظفر به.
ولمحاسبة النفس ثماراً ومنافع عظيمة منها:
1-الاطلاع على عيوب النفس ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكنه إزالتها.
2-المحاسبة توجب للإنسان أن يمقت نفسه في جانب حق الله عليه، وهذه كانت حال سلف الأمة، كانوا يمقتون أنفسهم في مقابل حق الله عليهم.
روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتاً".
وقال محمد بن واسع محتقراً نفسه وهو من العباد: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس معي".
قال ابن القيم رحمه الله: "ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنوا العبد به من ربه تعالى في لحظة واحدة أضعاف مايدنو بالعمل".
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "من مقت نفسه في ذات الله آمنه الله من مقته".
3-ومن ثمار محاسبة النفس إعادتها على المراقبة، ومعرفة أنه إذا اجتهد بذلك في محياه استراح في مماته، فإذا أخذ بزمامها اليوم وحاسبها استراح غداً من هول الحساب.
4-ومن ثمارها أنها تفتح للإنسان باب الذل والانكسار لله، والخضوع له والافتقار إليه.
5-ومن أعلى ثمارها الربح بدخول جنة الفردوس وسكانها، والنظر إلى وجه الرب الكريم سبحانه، وأن إهمالها يعرض للخسارة ودخول النار، والحجب عن الله وصلى العذاب الأليم.
وترك محاسبة النفس وإهمالها، له أضرار عظيمة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وأضر ما عليه: الإهمال: وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتثمينها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العافية، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها، وعسر عليه فطامها، ولو حضره رشده لعلم أن الحمية أسهل من الفطام وترك المألوف والعناد".
إذا ما أطعت النفس في كـل لــذة *** نسيت إلى غير الحجا والتكرم
إذا ما أجبت النفس في كل دعوى *** دعتك إلى الأمر القبيح المحرم
فاتقوا الله عباد الله وحاسبوا أنفسكم، فإن صلاح القلب وسلامته بمحاسبة النفس وفساده وعطبه بإهمال النفس والاسترسال في ملذاتها، وشهواتها وإهمال ما به كمالها، فاحذروا ذلك تعزو أنفسكم وتسعدوا عند لقاء ربكم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________